5.
من كلمة الروائي نجيب محفوظ في حفل تكريمه بجائزة نوبل:
أخبرني مندوب جريدةٍ أجنبية في القاهرة بأنَّ لحظةَ إعلان اسمي مقرونًا بالجائزة سادها الصمتُ، وتساءَلَ كثيرون عَمَّن أكون؛ فاسمحوا لي أنْ أُقدِّمَ لكم نَفْسي بالموضوعية التي تُتِيحها الطبيعةُ البشرية.
أنا ابن حضارتين تَزَوَّجَتا في عصرٍ من عصور التاريخ زواجًا مُوَفَّقًا؛ أُولَاهُما عُمرُها سبعة آلاف سنة، وهي الحضارة الفِرْعَوْنِيَّة، وثانِيَتُهما عُمرُها ألفٌ وأربعمائة سنة، وهي الحضارة الإسلامية، ولَعلِّي لستُ في حاجةٍ إلى التعريف بأيٍّ مِنَ الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعِلمِ، ولكِنْ لا بأسَ مِنَ التذكير ونحن في مَقام التَّعارُفِ.
وعَنِ الحضارة الفِرْعَوْنِيَّة، لنْ أتحدَّثَ عَنِ الغَزَوات وبناء الإمبراطوريات؛ فقَدْ أصبح ذلك مِنَ المَفاخر البالية التي لا ترتاح لذِكْرِها الضمائرُ الحديثةُ — والحمد لله —، ولنْ أتحدَّثَ عَنِ اهتدائها لأوَّلِ مرَّةٍ إلى الله سبحانه وتعالى، وكَشْفِها عن فجر الضمير البشري؛ فذلك مجالٌ طويل، فضلًا عن أنَّه لا يوجد بينكم مَن لم يُلِمَّ بسيرة الملك إخناتون، بل لنْ أتحدَّثَ عن إنجازاتها في الفنِّ والأدب ومُعجزاتها الشهيرة؛ الأهرام وأبو الهول والكرنك؛ فمَن لم يُسعِدْهُ الحظُّ بمُشاهَدة تلك الآثارِ فقَدْ قرأ عنها وتأمَّل صُوَرَها.
دعوني أُقدِّمها — الحضارة الفِرْعَوْنِيَّة — بما يُشبِهُ القِصَّةَ، ما دامت الظروفُ الخاصَّةُ بي قَضَتْ بأنْ أكونَ قَصَّاصًا؛ فتفضَّلوا بسماع هذه الواقعةِ التاريخيةِ المُسجَّلةِ. تقول أوراق البَرْدي: «إنَّ أحَدَ الفراعنة قد نَمَى إليه أنَّ عَلاقةً آثِمةً نشأتْ بين بعض نساء الحريم وبعض رجال الحاشية، وكان المُتوقَّعُ أنْ يُجْهِزَ على الجميع، فلا يَشِذ في تصرُّفه عن مُناخِ زمانه، ولكِنَّه دعا إلى حضرته نُخبةً من رجال القانون، وطالَبَهم بالتحقيق فيما نَمَى إلى عِلمِه، وقال لهم إنَّه يُرِيد الحقيقةَ ليحكُمَ بالعدل». ذلك السلوكُ في رأيي أعظمُ من بناء إمبراطوريةٍ وتشييد الأهرام، وأدَلُّ على تفوُّق الحضارة من أيِّ أُبَّهَةٍ أو ثراء، وقد زالت الإمبراطوريةُ وأمستْ خبرًا من أخبار الماضي، وسوف تتلاشى الأهرامُ ذاتَ يَومٍ، ولكنَّ الحقيقةَ والعدلَ سيبقيان ما دام في البشرية عقلٌ يتطلَّعُ أو ضميرٌ يَنبِضُ.
وعَنِ الحضارة الإسلامية، فلنْ أُحدِّثَكم عن دعوتها إلى إقامة وَحدةٍ بشرية في رحاب الخالق، تَنْهَضُ على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها؛ فمِن مُفكِّريكم مَن كرَّمَه كأعظمِ رجُلٍ في تاريخ البشرية، ولا عن فُتوحاتها التي غرَسَتْ آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخَيرِ على امتداد أرضٍ مُتراميةٍ، ما بين مَشارِفِ الهند والصين وحدود فرنسا، ولا عَنِ المؤاخاة التي تحقَّقَتْ في حِضْنِها بين الأديانِ والعناصر، في تسامُحٍ لم تعرِفْه الإنسانيةُ مِنْ قَبْلُ ولا مِنْ بَعْدُ، ولكِنِّي سأُقدِّمها في موقفٍ دراميٍّ مُؤثِّرٍ، يُلخِّص سمة من أبرز سماتها. في إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية، رَدَّتِ الأسرى في مُقابِل عددٍ من كتب الفلسفة والطب والرياضيات مِنَ التراث الإغريقي العَتيدِ، وهي شَهادةٌ قَيِّمةٌ للرُّوحِ الإنسانية في طموحها إلى العِلمِ والمعرفة، رغم أنَّ الطالبَ يعتنِقَ دِينًا سماويًّا والمطلوبَ ثمرةُ حضارةٍ وَثَنِيَّةٍ.
تغافل الكاتب عن ذِكْر الكثير من مظاهر الحضارة الإسلامية، فلماذا؟