1.
يقول أحمد زكي باشا في مقال له واصفًا رحلة له في بعض المدن الأوروبية:
التقينا في القطار برجُلٍ من أهل تورينو، أشار علينا بشطر الطريق نصفين؛ حتى لا تفوتَنا الفرصةُ من مشاهدة هذه المدينةِ الفاخرةِ التي تُسمَّى في كُتُب قدماء العرب «طزون وطرونة وأطرونة»، وحتى لا نتعبَ من طول الطريق، فعمِلْنا بنصيحته، وقصدنا متاحف المدينة، ولا أذكُرُ منها الآنَ إلَّا القِسمَ المصري؛ فقَدْ رأيتُ لهم عنايةً تامَّةً بحفظ الآثار التي صرفوا في جلبها من بلادنا الأبيضَ الوضَّاحَ والأصفرَ الرنَّانَ، ورأيتُ فيه مجموعة كاملة من ورق البردي المُزيَّن بالأشكال والرسوم الباهية، فيها تصويرُ الأحوال التي تمُرُّ على المصري القديم من يَومِ مَنْبِتِهِ إلى يَومِ مَنِيَّتِهِ إلى يَومِ دينونته إلى يَومِ مُستقَرِّهِ في جَنَّةٍ أو جَهنَّمَ، ثم نزلنا تحت الأرضِ في قاعات طويلة فيها الآثارُ المصرية الضخمة كالمسلة، وصورة لأبي الهول، وهي في غاية الجمال.
وقبل أنْ نَصِلَ إلى مدينة مودان الفاصلةِ بين تُخُومِ فرنسا وإيطاليا دخَلْنا نفَقًا منقورًا في جبلٍ يُناطِح السحاب، فداخلني منه خَوفٌ شديد ورعب زائد؛ لكثرة فزعي من هذه الكتلةِ المتناهيةِ في الجسامة والضخامة التي ستكون فَوقَنا، وقد كنتُ أحسَبُ نفسي قد تعوَّدْتُ على السير في الأنفاق، فإذا الأمرُ ليس كذلك؛ لأنَّ القطارَ صار يسير ويتعثَّر في مشيته، ثم يُخفِّف من وطأته ثم يستريح، ثم يَصْفِرُ ثم يتنهَّد، ثم ينحدر فيكتم نَفَسه خَوفًا مِنَ الانزلاق على المنحدر، وينتقل على قضبانٍ تُوشِك أنْ تكونَ مُضرَّسةً لحفظه مِنَ السقوط، وقد استطال السير حتى كادت النفوس تزهَقُ مِنِ انحصار الهواء، ومِنَ الرعب الشديد الذي قد تضاعَفَ بمرور باخرة أخرى بجانبنا ما لَبِثَتْ أنْ بارحَتْنا، وتركتْ باخرتَنا كالفرس أجهدها الضَّنَى، وحضرتْها ساعةُ الوفاة، ومع ذلك لا يرحمها الفارس، بل يَنْخُسُها ويستنزف ما بَقِيَ فيها من حَوْلٍ وقوة، ولا حول ولا قوة.
وكنتُ وأنا تحت هذا الجبلِ المتعالي أخشى أنْ ينهارَ ويروحَ القطارُ شهيدَ هذا الدمارِ الذي ليس بَعْدَه دمار، وكنتُ أخشى أنْ يَصِحَّ على السائق نَصُّ حديث النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لا أرضًا قطَعَ ولا ظهرًا أبقى»، وكان الطَّلُّ مُتساقِطًا والنُّورُ في العربة أصفرَ باهتًا، فتوسَّلْتُ إلى الله جلَّ شأنُهُ أنْ يُهيِّئَ لنا الخروجَ من هُوَّةِ الظلمات إلى فضاء النور، فتقبَّلَ الدعاء وأنعش أرواحَنا بالضياء، وليس هذا الوصفُ الحقيرُ شيئًا بجانب الحقيقة على الإطلاق، وإنْ لم تُصدِّقْني فتعالَ إيطاليا، ومُرَّ بهذا النَّفَقِ، وليس الخبرُ كالعِيانِ.
ولقد اعترفتُ حينئذٍ بصِدْق مَن قال: إنَّ الحادثات تمُرُّ على الإنسان، ثم ينساها حتى كأنْ لم يكُنْ منها ما كان؛ فإنِّي بَعْدَ الخروجِ من هذا المسلكِ الحرج افتكرتُ أنِّي نسيتُ أمرًا خطيرًا، وذلك أنِّي خرجتُ من إيطاليا ولم أتناوَلْ شيئًا مِنَ المكرونة «طعامها المشهور»، حتى وَدِدْتُ لو رجعتُ إليها لآكُلَ منها بالأرطال؛ فإنَّ المكرونةَ مقرونةٌ فيه بالإتقان، ولكنْ هيهاتَ هيهاتَ رَدُّ ما فات، خصوصًا وقد خشيتُ عودة المرور من ذلك الطريق في النفق المضيق
من خلال قراءتك للنَّصِّ وفَهْمك له، حدِّد المغزى الذي يهدف إليه الكاتب من وراء قوله: «وتركتْ باخرتَنا كالفرس أجهدها الضَّنَى، وحضرتْها ساعةُ الوفاة».