1.
من كتاب «شاهد عصره» ليوسف إدريس، بتصرُّف
وأنا أتلقَّى الدرس الكبير من الطبيعة كنت لا أكاد أُصدِّقه، أحيانًا يُخيَّل إليَّ أن بِساطًا سحريًّا نَقَلَني في الأحلام إلى قلب الغابة، وأحيانًا يُخيَّل لي - رغم واقعية كل شيء ومعقوليته تمامًا - أن الروعة أكبر من أن تكون حقيقة؛ فهو لم يكن جميلًا فحسبُ، كان مُروِّعًا مُوقِظًا مُستفِزًّا.
قالوا: غدًا أول الشهر، سيبدأ السقوط، وبدأ الخريف في نفس اليوم بالضبط، منذ أوائل ساعات الصباح الأولى بدأت أوراق الأشجار الكثيفة الخضراء تَشْحَبُ، وفي اليوم التالي بدأت تَصفَرُّ وتَصفَرُّ، ثم بدأت تتساقط، والأرض التي كانت جرداء عارية إلا من أعشابها التقليدية بدأت تستقبل الورق الساقط، وتهُبُّ الريح فتدفعها موَشْوِشة وتتطاير بها أدراج الرياح.
وفي أسبوع واحد كانت كل الأوراق قد تساقطت تمامًا من فوق الأشجار، وأصبحت كل شجرة ليست سوى الساق الرفيعة الطويلة ذات الأفرع الصغيرة، واقفةً جرداء.
عجِبْتُ للسرعة التي تمَّت بها العملية، والدقة والشمولية، من أين أخذت الأشجار الأمر؟! وكيف نفَّذته كلٌّ منها في نفس الوقت واللحظة؟! ومَن قال لماء الحياة أن يجفَّ في الورقة إلى أن تسقط وحدها ميتة؟! لم يكن الجوُّ تغيَّر كثيرًا، فكيف ومِن أين نبَعَتْ هذه الدقة الغريبة لخاصية التغيُّر؟!
أسئلة سرعان ما أجابت عليها الطبيعة ذاتها … كانت الأشجار إذن تستعد لمَقْدَمِ الخريف ثم الشتاء، وكانت تعرف أن المعركة التي عليها أن تخوضها معركة رهيبة ضد البرد والثلج الذي بدأ يتساقط. كانت تعرف أنها معركة حياة أو موت، كان عليها أن تتخلَّص من حِملها الضخم من الأوراق، الذي يُعرِّضها لأكبر جرعة من البرد. وهكذا لم تتعرَّ حسبما تصوَّرت، إنما انكمشت رُوحُ الحياة فيها إلى أقصى قدر، وبحيث تستحيل الجذوع والفروع إلى ما يشبه الأسلاك الخشبية الميتة وما هي بميتة، إنما هي آخِذةٌ وضع الاستعداد؛ فالحرب الرهيبة ضد الشتاء مُقبِلة، فإما دفاع عن كُنْهِ الحياة فيها إلى آخِر رَمَقٍ، وإما الفناء والموت.
وقفتُ وسط الغابة الصامتة صمتَ الجِدِّ، صمتَ المعركة الخفية الدائرة، والثلج يغمر الأرض بعدما كانت تغمرها الأوراق، وآلاف الجنود الشجرية سامقة، مهيبة، تدافع عن نفسها ضد جوٍّ أصبح تحت الصفر، قد تخلَّصت من كل معوقات المعركة، وكست نفسها بزي الحرب الكابي وأخذت تقاتل، وبعنفٍ مستميت بُطوليٍّ تُقاوِم، أبدًا لن ينتصر الشتاء، ورغم الثلج وبرودة الثلاثين تحت الصفر ستبقى، فما وُجِدَت إلا لتبقى، وليكن بقاؤها بمعركة، ولا معركة إلا بقتال، وأن تبقى مقاتلًا أو تقاتل لتبقى هو القانون.
وقفتُ وسط الغابة مسحورًا ببطولة الشجر، ببطولة الحياة البكماء الصماء العمياء وهي تدافع عن وجودها، وآلاف الأحاسيس تتنازعني؛ أوَّلُها وأضخمها إحساسي العارم أنَّ أحطَّ أنواع الحياة بكل صَمَمِها وبَكَمِها وعماها هكذا بالسليقة، وبحكم كونها حياة ما وُجِدَت إلا لتُقاوِم.
كان خليقًا بي أن أُحِسَّ بالوحشة والضياع، ولكني لم أفعل، بالعكس أحسستُ بدفء الإحساس بالحياة … أحسستُ بالغابة المُتجرِّدة جميلةً جمالًا لا حدَّ له، صفوفٌ من الشجر وراء صفوف تَسخر بالشتاء من الشتاء، ومُتأكِّدة أنها المنتصرة حتمًا، وأنه هو الذي لن يلبث أن يزول، وستحضر حتمًا مَقْدَم الربيع، وحينئذٍ تبدأ تُطلِق أوراقها الجديدة، وتُشِيع ألوانها الزاهية، وتُغنِّي الغابة وتتراقص مع النسمات.
ويقول «إبراهيم أصلان»
في قصة «الكنيسة نورت»: «كانت عائلة العم منصور المسيحي تُجاوِرنا، سَواء في البيت أو في قعدة الشاطئ، وكانوا يُساهِمون في القروش القليلة التي يجمعها الأولاد مِنْ أَجْلِ تزيين الحارة، ولا يُفطِرون إلا مع الأذان، وكنا نتبادل ألواح الصاج التي نرص عليها الكعك والبسكويت والغريبة، ونتبادل حَملها إلى الفرن القريب، ونظل حتى الصباح؛ حيث يعود كلٌّ منا بألواحه، ونتبادل الزيارة يوم العيد».
وازِنْ بين الفقرتين السابقتين من حيث استخدام الخيال