1.
من كتاب «وحي القلم» للرافعي، بتصرُّف:
«كان فلان ابن الأمير فلان يتنبَّل في نفسه بأنه مشتق ممَّن يضع القوانين لا ممَّن يخضع لها، فكان تَيَّاهًا صَلِفًا يَشْمَخُ على قومه بأنه ابن الأمير، ويختال في الناس بأنَّ له جَدًّا من الأمراء …
وكان أبوه من الأمراء الذين وُلدوا وفي دمهم شعاع السيف، وبريق التاج، ونخوة الظَّفَر، وعز القهر والغلبة، ولكن زمن الحصار ضُرب عليه، وأفضت الدولة إلى غيره، فتراجعت فيه مَلَكات الحرب من فتح الأرض إلى شراء الأرض، ومن تشييد الإمارات إلى تشييد العمارات، ومن إدارة معركة الأبطال إلى إدارة معركة المال، وغَبَرَ دهرَهُ يملِك ويجمع حتى أصبحت دفاتر حسابه كأنها «خريطة» مملكة صغيرة.
وانتقل الأمير البخيل إلى رحمة الله، وترك المال وأخذ معه الأرقام وحدها يُحاسَب عنها، فورثه ابنه وأمَرَّ يده في ذلك المال يبعثره، وكانت الأقدار قد كتبت عليه هذه الكلمة: «غير قابل للإحسان»، فمحتها بعد موت أبيه، وكتبت في مكانها هذه الكلمة: «جُمِع للشيطان».
أما الشيطان فكان له عمل خاص في خدمة هذا الشاب، كعمل خازن الثياب لسيده، غير أنه لا يُلبِسه ثيابًا، بل أفكارًا وآراء وأخيلة
قالوا: واعترض ابنَ الأمير ذات يومٍ شحَّاذٌ مريض قد أَسَنَّ وعَجَزَ، يتحامل بعضه على بعض، فسأله أن يُحسِن إليه، وذكَرَ عَوَزه واختلاله، وجعل يَبُثُّه من دموعه وألفاظه، وكان إبليس في تلك الساعة قد صرف خواطر الشاب إلى إحدى الغانيات الممتنعات عليه، وقد ابتاع لها حلية ثمينة اشتطَّ بائعها في الثمن حتى بلغ به عشرة آلاف دينار، فهو يريد أن يهديها إليها كأنها قدرٌ من قادر، وقطع عليه الشحاذ المسكين أفكاره … ثم ألقى الشيطان إلقاءه عليه، فإذا هو يرى صاحب الوجه القذر كأنما يتهكَّم به يقول له: أنت أمير يبحث الناس عن الأمير الذي فيه، فلا يجدون إلا الشيطان الذي فيه
وكان هذا كلامًا بين وجه الشحاذ وبين نفس ابن الأمير في حالة بخصوصها من أحوال النفس، فلا جَرَم أن أُهين الشحاذ وطُرد ومضى يدعو بما يدعو.
ونام ابن الأمير تلك الليلة فكانت خَيَالَتُهُ من دنيا ضميره وضمير الشحاذ، فرأى فيما يرى النائم أن ملَكًا من الملائكة يهتف به: ويلك! لقد طردتَ المسكين تخشى أن تنالك منه جراثيم تمرض بها، وما علمت أن في كل سائل فقير جراثيم أخرى تمرض بها النعمة، فإن أكرمتَه بقيَتْ فيه، وإن أهنتَه نفضها عليك، لقد هلكَتِ اليوم نعمتُك أيها الأمير، واستردَّ العاريةَ صاحبُها، وأكلت الحوادثُ مالك، فأصبحتَ فقيرًا محتاجًا، تروم الكِسرة من الخبز فلا تتهيَّأ لك إلا بجهد وعمل ومشقة؛ فاذهب فاكدح لعيشك في هذه الدنيا، فما لأبيك حقٌّ على الله أن تكون عند الله أميرًا.
قالوا: وينظر ابن الأمير … فإذا هو بعد ذلك صعلوك أبتر مُعدِم رثُّ الهيئة كذلك الشحاذ، فيصيح مغتاظًا: كيف أهملتْني الأقدار وأنا ابن الأمير؟! قالوا: ويهتف به ذلك الملَك: ويحك! إن الأقدار لا تُدلِّل أحدًا، لا ملِكًا ولا ابن ملك، ولا سوقيًّا ولا ابن سوقي، ومتى صِرتم جميعًا إلى التراب فليس في التراب عظم يقول لعظم آخَر: أيها الأمير.
قالوا: وفكَّر الشاب المسكين في صواحبه من النساء، وعندهن شبابه وإسرافه، ونفقاته الواسعة، فقال في نفسه: أذهب لإحداهن، وأخَذَ سَمْتَه إليها، فما كادت تعرفه عيناها في أسماله وبَذَاذته وفقره حتى أمرت به فجُرَّ بيديه ودُفع في قفاه، ولكنَّ دم الإمارة نزا في وجهه غضبًا، وتحركت فيه الوراثة الحربية، فصاح وأجلب، واجتمع الناس عليه واضطربوا، وماج بعضهم في بعض، فبينا هو في شأنه حانت منه التفاتة فأبصر غلامًا قد دخل في غُمار الناس، فدس يده في جيب أحدهم فنشل كيسه ومضى.
قالوا: وجرى في وهم ابن الأمير أن يَلْحَقَ بالغلام فيكبسه كِبسة الشرطي، وينتزع منه الكيس وينتفع بما فيه، فتسلَّل من الزحام وتَبِعَ الصبي حتى أدركه، ثم كبسه وأخذ الكيس منه وأخرج الكنز، فإذا ليس فيه إلا خاتم وحجاب وبعض خرَزَات ممَّا يتبرَّك العامة بحمله، ومِفتاح صغير … ثم إنه رمى الكيس في وجه الغلام وانطلق، فبينا هو يمشي وقد توزَّعته الهموم … وكان قد بلغ سوقًا فأمَّل أن يجد عملًا في بعض الحوانيت، غير أن أصحابها جعلوا يزجرونه مرة ويطردونه مرة؛ إذ وقعت به ظِنَّة التلصُّص، وكادوا يُسلِمونه إلى الشرطي فمضى هاربًا، وقد أجمع أن ينتحر؛ ليقتل نفسه ودهره وإمارته وبُؤسه جميعًا.
قالوا: ومرَّ في طريقه إلى مصرعه بامرأة تبيع الفُجْل والبصل والكُرَّاث … وعلى وجهها مَسْحة إغراء، فذكر غَزَله وفتنته واستغواءه للنساء، ونازعته النفس، وحسِب المرأة تكون له معاشًا ولهوًا، وظنَّها لا تُعجِزه ولا تفوته وهو في هذا الباب خرَّاج ولَّاج منذ نشأ، غير أنه ما كاد يُراوِدها حتى ابتدرته بِلَطْمة أظلم لها الجو في عينَيْهِ … واستعْدَتْ عليه السابلة فأطافوا به، وأخذه الصفعُ بما قدُم وما حدُث، وما زالوا يتعاورونه حتى وقع مغشيًّا عليه.
ورأى في غشيته ما رأى مِن تمام هذا الكرب، فضُرب وحُبس وابتُلي بالجنون وأُرسل إلى المارستان، وساح في مصائب العالم، وطاف على نكبات الأمراء والسوقة بما يعي وما لا يعي، ثم رأى أنه أفاق من الإغماء، فإذا هو قد استيقظ من نومه على فراشه الوثير.
ويا ليت مَن يدري بعد هذا! أغدَا ابن الأمير على المسجد وأقبل على الفقراء يُحسِن إليهم، أم غدا على صاحبته التي امتنعت عليه فابتاع لها الحلية بعشرة آلاف دينار؟».
بيِّن القيمة الفنية للتشبيه في قول الكاتب: «وغَبَرَ دهرَهُ يملِك ويجمع حتى أصبحت دفاتر حسابه كأنها «خريطة» مملكة صغيرة» في الفقرة الثانية؟