1.
: يقول «نزيه أبو نضال» في قصة «الرغيف» (بتصرُّف):
«خرج عم صابر في الصباح الباكر، ولم تزلْ صُفرة الفجر الباهتة تعكس أضواءها الخافتة على وجهه الأصفر النحيل، وصدى خطواته المُتعَبة من أثر نُعاس الليل والسنين ترنُّ متقطِّعة في أزقَّة سيدنا الحسين، فتُردِّد صداها الزوايا المُعتِمة، فتبعث في أوصاله رعشة خوف وبرودة.
… ضمَّ أَسْماله حول رقبته وهو يقوِّس أكتافه المتهدِّلة، ويجرُّ خطاه نحو العتبة، وفي ذهنه ترنُّ كلمات زوجته: «الله يخلِّي ولادك يا أبو المعاطي، ها قد وجدتَ عملًا بعد طول انتظار».
نعم، فلولا أبو المعاطي لما وجد إلى العمل سبيلًا، لقد رجَتْه زوجته حين ذهبت لتغسل لهم قبل أيام، ووعدها بأن يشتغل عنده بالعمارة التي يبنيها بمصر الجديدة، وها هو الآن يأخذ طريقه إليها بعد أن استدان من أبي محسن البقَّال خمسة قروش ثمنًا للغداء وأجرة للطريق.
وصل إلى مكان العمل مرهقًا، وظلَّ حتى الظهيرة منحنيًا فوق «المِجرفة» يخلط أكوام الرمل بالأسمنت مع الماء، أحسَّ بفقرات ظهره تتصلَّب، لم يكن باستطاعته أن ينتصب قليلًا ليستريح؛ فمراقب العُمَّال يجلس على كرسي قريب يلاحظ سير العمل، وإذا ظهر منه أي ضعف فلن يَدَعَه يعمل في اليوم الثاني.
وصل أبو المعاطي إلى مكان العمل، ونزل من سيارته الصغيرة، ووقف مع ملاحظ العُمَّال يكلمه عن سير العمل، رآه عم صابر فازداد سرعة ونشاطًا، عليه أن يُثبِت لأبي المعاطي قدرتَه على العمل حتى يُشغِّله معه دائمًا …
وعندما طلب الملاحظ من العُمَّال أن يستريحوا للغداء، حاول عم صابر بكل طاقته أن يرفع قامته وهو يحسُّ بألم هائل بجسمه، وزحف إلى جدار ليستريح، وبعد أن استراح قليلًا نهض ليشتري غداء له: رغيفًا بنصف قرش، ونصف القرش الآخر اشترى به طعمية، وأكمل مَلء معدته بالماء …
أحسَّ بالرضى؛ لأن أبا المعاطي اختاره ليحرس العمارة، لولا أمانتي لما اختارني من بين جميع العُمَّال، إنه رجل طيب، لقد قال لي اليوم: شد حيلك يا عم صابر. إنه يذكر اسمي، رجل أمير حقًّا، أظنُّ أنه سيمنحني غدًا خمسة قروش زيادة، سأقبض خمسة وعشرين قرشًا مرة واحدة، سأضعها في يد زوجتي، كم ستفرح غدًا! هل تناولتْ طعامًا اليوم؟ إنها نادرًا ما تجد غسيلًا هذه الأيام، لقد دبَّت الشيخوخة فيها هي أيضًا، ولم يَعُدْ غسيلها نظيفًا كما كان؛ على الرغم من أنها تُنكِر ذلك وتقول: إنه يخرج من تحت يديها أنظف غسيل، هي صادقة كذلك، لقد ضعف نظرها فما عادت ترى الأشياء كما هي، أعطاها الله القوة! لقد تعبت معي كثيرًا، وأنا تعبت كذلك، وما عاد أحد يطلبني للعمل كالسابق.
يقولون إنني كبرت ولا أُنتِج عملًا، وقد يكون هذا صحيحًا، ولكنْ ماذا أستطيع أن أفعل؟! وكيف نعيش؟! لولا جيراننا، فيعلم الله ماذا كان سيحلُّ بنا. في أغلب الأيام يبعثون لنا بقايا طعام نظيف يزيد بعد الفطور أو الغداء، ويقولون: إنه للفراخ. لا يريدون أن يجرحونا فيتحجَّجون بالفراخ، وهي فرخة واحدة هزيلة لا تَسمن أبدًا. جيران طيبون حقًّا، ولكنهم فقراء مثلنا، وفي أيام كثيرة نظلُّ ننتظر طعام الفراخ دون جدوى، وننام كالفراخ بلا طعام. لقد أكلتُ اليوم رغيفًا كاملًا وطعمية وقطعة بصل من أحد العُمَّال، قد تكون زوجتي بلا طعام منذ الصباح. أحسَّ بجوع مُضاعَف وهو يتحسَّس القرشين في جيبه، أجرة الطريق. وصل حارس الليل متأخِّرًا فنهض عم صابر بتثاقُل وجرَّ أقدامه إلى المحطة، ومن كشك هناك ارتفع نداء: «فول، طعمية، كبدة».
تسرَّبت الرائحة إلى صدره قوية لا تُقاوَم. دون أن يفكِّر كان البائع يقدِّم له رغيفًا من الفول، رفعه إلى شفتيه، رأى امرأة تقطع الجانب الآخَر من الطريق، تذكَّر زوجته، تناول الورقة من البائع ولفَّ بها الرغيف بإحكام وهو يتمتم: سأقتسم الرغيف مع زوجتي في البيت، قد لا تكون أكلت شيئًا منذ الصباح».
ما نوع الأسلوب، وما غرضه في قول الكاتب: «أعطاها الله القوة» في الفقرة الخامسة؟