25.
يقول «زكي نجيب محمود» في مقال بعنوان «البرتقالة الرخيصة»:
لم أكَدْ أفرُغُ من طعام الغَداء حتى جاءني الخادم بطبَقٍ فيه برتقالةٌ وسكِّينٌ، فرفعتُ السكِّين وهممتُ أنْ أَحُزَّ البرتقالة، ولكنِّي أعَدْتُها وأخذتُ أُدِيرُ البرتقالة في قبضتي وأنظُرُ إليها نظرةَ الإعجابِ؛ فقَدْ راعني إذْ ذاك لونُها البديع وجمالها الخَلَّابُ؛ فأشفقتُ عليها مِنَ التقطيع والتشريح، ثم نظرتُ إلى خادمي وقلتُ مُبتسِمًا: لعلَّ برتقالةَ اليَومِ يا سُليمانُ لا يكون بها مِنَ العَطَبِ ما كان بتفاحة الأمس!
فقال: كلَّا يا سيِّدي فلَنْ يكونَ ذلك قَطُّ؛ فإنَّ مِن خِلال البرتقال التي يتميَّز بها عن سائر ألوان الفاكهة أنَّ العَطَبَ يبدأ من خارجه لا من داخله؛ فإنْ وجدتَ قشور البرتقالة سليمةً فكُنْ على يقينٍ جازمٍ بأنَّ لُبابَها سليمٌ كذلك؛ فالبرتقالة لا تُخفِي بسلامة ظاهرها خُبْثَ باطنها، ولا كذلك التفاحة، التي قد تُبدِي لك ظاهرًا نَضِرًا لامعًا، فإذا ما شَقَقْتَ جوفه ألفيتَهُ أحيانًا مكانًا يضطرب فيه أخبثُ الدود!
فقلتُ: تلك والله يا سُليمانُ خَلَّةٌ للبرتقال لم أكُنْ أعلمها مِنْ قَبْلُ، ولكنِّي أتبيَّنُ الآنَ أنَّها حقٌّ لا رَيْبَ فيه، وإنَّه بهذه الخَلَّةِ وحدَها لَجديرٌ من بائع الفاكهة أنْ يرُصَّهُ في صناديقه الزجاجية، وأنْ يَلُفَّهُ بغِلافٍ من ورق شفَّافٍ؛ حرصًا على هذه النفسِ الكريمةِ أنْ تُستذَلَّ وتُهانَ في المقاطف والأقفاص؛ فهو لَعَمْرِي بهذه العنايةِ أَجْدَرُ مِنَ التفاح الخادع، وماذا تعلم يا سُليمانُ غَيرَ ذلك من صفات البرتقال؟
فقال: إنَّها لَتُشْبِعُ الحواسَّ جميعًا؛ فهي بهجة للعَينِ بلَونِها، وهي مُتعة للأنف بأَرِيجها، ولذَّةٌ للذَّوقِ بطعمها، ثم هي بَعْدَ ذلك راحة للأيدي حين تُدِيرها وتُدحرِجها كما تفعل يا سيِّدي الآنَ، وهي فوق ذلك كلِّه لم تنسَ أنْ تَحْنُوَ بفضلها على الفلاح المِسكين؛ لأنَّها قرَّرتْ منذ زمنٍ بعيدٍ أنْ تمنحَهُ جِلدَها ليُملِّحَه فيأكلَه طعامًا شهيًّا!
قلتُ: أَفَبَعْدَ هذا كلِّه يستخفُّ بقَدْرها الفاكهانِيُّ، فيقذف بها قذفًا مُهمَلًا في الأوعية والسلال؟! أَفَبَعْدَ هذا كلِّه تُقوَّم البرتقالةُ في سوق الفاكهة بمِلِّيمَيْنِ، وتُقدَّر التفاحةُ بالقروش؟!
وهنا نَقَرَ البابَ طارقٌ نقرةً خفيفة، ثم دفعه في أَنَاةٍ وأقبَلَ، وأخذ يدنو بخُطًى ثقيلةٍ حتى اقترب مِنَ المائدة، فألقى عليها غِلافًا مليئًا بأوراق، ثم جلس ونظر إليَّ نظرةً يَشِيع منها اليأسُ، فسألتُهُ: ماذا دَهاك؟
فأجاب: انظُرْ! وأشار بإصبعه إلى الحُزْمَة المُلقاة قائلًا: لقد رفض الناشر أنْ يتعهَّدَ طبع الكتاب، وهكذا ذهب مجهودُ أعوامٍ ثلاثةٍ أدراجَ الرياحِ!
فسألتُهُ: وماذا قال الناشر؟
فأجاب: زعَمَ لي أنَّ الكتابَ جَيِّدٌ لا بأسَ بمادَّتِهِ، ولكنَّه لا يَتوقَّعُ له سوقًا نافقةً؛ لأنَّ العِبرةَ عِندَ القارئين بالكاتب لا بالكتاب، ألستَ ترى في ذلك يا أخي عبثًا أيَّ عبث؟
قلتُ: هوِّنْ على نفسك الأمر ولا تحزن؛ فكتابك برتقالة رخيصة، وكم في الأشياء ما هو جيِّدٌ ورخيص!
فمتى يا رَبَّاهُ يعرف الفاكهاني لهذه البرتقالةِ المِسكينة قَدْرَها؟
ما المقصود بقول خادم الكاتب: «ألوان الفاكهة»، كما تفهم من سياق الفِقْرة الثانية؟