2.
1-هل رأيت مرة نجارًا دقيقًا يصنع ما يسمَّى في النجارة «بالعاشق والمعشوق»، فيؤلِّف بين الأسنان في قطعة ومكان التحامها في القطعة الأخرى، حتى إذا تعاشقتا كوَّنتا ما يشبه القطعة الواحدة، بل أمتن وأقوى؟
تلك هي الصداقة؛ مزاجان متناسبان ولا أقول متحدين، وغرضان متناسبان ولا أقول متحدين أيضًا، فلا بد من التنوع؛ كالتنوع بين نغمة العود والقانون، والتنوع بين العاشق والمعشوق، ولكن هذا التنوع يعتمد على ذوقين متشابهين كتشابه ذوقي العوَّاد والقانوني، ولا بد أن يُدعَم هذا كله بالتناسب في المركز الاجتماعي، واستعداد كلٍّ للسير على قانون الأخذ والإعطاء، لا الأخذ من جانب والإعطاء من جانب، فهذه شروط لا بد منها في دوام الصداقة وإلا كانت عرضة للتفكك السريع.
2- ومن التناسب في الصداقة ما نرى من غَضوب يصادق حليمًا، ومَرِح يصادق رزينًا، ونشيط يصادق خمولًا، وثرثار يصادق مقلًّا؛ فإن في هذا تناسبًا لا اتحادًا؛ كأن كلًّا يشعر بناحية من نواحي نقصه، أو من نواحي مبالغته، ويجد في الآخر ما يكمل نقصه، أو يحد من مبالغته فتكون الصداقة.
3- ونلاحظ في الحياة اليومية أن بعض الأشخاص سريع الصداقة، سرعان ما يألَف ويؤلَف، وأشخاصًا آخرين لا يألَفون إلا ببطء ولا يؤلَفون إلا ببطء، (ويرجع ذلك في الغالب إلى طبيعة النفوس) فهناك نفوس مكشوفة تُعرف بمجرد النظر إليها؛ كالماء الخفيف الصافي يظهر ما تحته، ليس بين ظاهره وباطنه إلا نسيج شفاف لا يحجب ما وراءه، وهناك نفوس غامضة لا يدل ظاهرها على باطنها، وقد سُتِرتْ بنسيج كثيف، أو غطِّيت بطبقة سميكة لا تظهر إلا بعد طول المراس، بل كثيرًا ما يدل ظاهرها على خلاف باطنها، ومن هذا قد يُكرَه الشخص ثم يُحبُّ، ويعادي ثم يصادق؛ لأن نفسه لم تنجلِ لأول وهلة، إنما تنجلي بالمران والاحتكاك واختلاف المواقف ومواطن الجد التي تُظهر النفوس على حقيقتها.
4- والصداقة كالبذرة توضع في الأرض، فإن صادفت تربتها الصالحة، وغذِّيت الغذاء الصالح، وتعهَّدها صاحبها بما يناسبها، كبرت ونمت وصارت شجرة يانعة، وإلا ماتت في مهدها أو في أثناءنموها؛ كذلك الصداقة قد تكون بنت ساعة، وبنت شهر، وبنت سنة، في المواقف الحرجة، ولا شيء يسمِّم الصداقة كشعور الصديق بأن صديقه يستغله، ويصادقه لمنفعته هو، فيوم يأتي دور التضحية ينفض يده! وأبعد الناس عن الصلاحية للصداقة من كان أنانيًّا يتخذ الصداقة وسيلة من وسائل التجارة.
ما القانون الذي حبذته الفقرة الأولى؟