1.
يقول المازني (حلاق القرية)
وقعتْ لي هذه الحادثة في الريف منذ سنوات عديدة، قبل أن تتغلغل المدنية إلى أنأى قُراه، وكنت أنا الجاني على نفسي فيها، فقد عرض عليَّ مضيفي أن أستعمل موساه فأبيتُ، وقلت: ما دام للقرية حلاق فعليَّ به، فحذَّرني مضيفي وأنذرني ووعظني، ولكنني ركبت رأسي وأصررت أن يجيء الحلاق. فجاء بعد ساعات يحمل ما ظننته في أول الأمر مخلاة شعير، وسلَّم وقعد وشرع يُحييني ويحادثني حتى شككت في أمره واعتقدت أن الحلاق شخص آخر، ولما عِيل صبري سألته عن حلاق القرية، فابتسم وأنبأني أن الحلاق محسوبي «يعني نفسه»، فلعنته في سري وسألته متى ينوي أن يحلق لي لحيتي؟ أم لا بد أن يضرب بالرمل والحصى أولًا ويصحب الطالع قبل أن يباشر العمل؟ فلم يفهم وأولاني صدغًا كث الشعر وقال: هيَّا، فظننته أصم وصحت به: أ … ر … يد أن … أ … ﺣ … لـ...ق، فأقبل على مخلاته فأخرج منها مقصًّا كبيرًا جدًّا، فدنوتُ من أذنه وسألته: هل في القرية فيل؟
فقال: فيل؟ لماذا؟
فأشرت إلى المقص. فضحك. وقال: هذا مقص حمير ولا مؤاخذة. فقلت: ولماذا تجيئني بمقص الحمير؟ أحِمارًا تراني؟
وبعد أن أفرغ مخلاته كلها انتقى أصغر الأدوات، ثم أقبل عليَّ وقال: تفضَّل.
قلت: ماذا تعني؟ قال: اجلس على الأرض. قلت: ولماذا بالله؟ قال: ألا تريد أن تحلق؟ قلت: ألا يمكن أن أحلق وأنا قاعد على الكرسي؟ قال: وأنا؟ قلت في سري: وأنت تذهب إلى جهنم ونعم المصير، وفتح موسى كالمِبرَد، فقلت: ماذا؟ أتريد أن تحلق لي بمِبرد، ومن غير صابون؟
قال: ماذا يخيفك؟
قلت: يخيفني؟ لقد دعوتك لتحلق لي لحيتي لا لتَبرُد لي شعرها.
قال: يا فندي لا تخَف.
ثم قرأ من الكتاب الكريم: «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى …» إلى آخر الآية الشريفة، وأظنُّه أراد أن يَرقِيني بها، فيا لها من حلاقة لا تكون إلا بِرُقية!
ولا أطيل على القارئ. فقد أهوى الرجل بموساه على وجهي فسلخ قطعة من جلدي فردَّني الألم إلى الحياة، فتشهَّدتُ وتذكَّرتُ قول المتنبي:
وإذا لـم يـكُن من الموت بدٌّ
فمن العجز أن تموت جبانَا
سأسدل الستارَ على هذا المنظر الذي يقشعر منه جلدي على الرغم من كر السنين الطويلة. ثم جاء هذا السفَّاح بطشتٍ يغرق فيه كبش، ووضعه تحت ذقني وصب ماءه على وجهي وفي صدري وعلى ظهري، ليغسل الدم الزكي الذي أراقه، وأخرج من مخلاته منشفة هي بممسحة الأرض أشبه، فاعتذرت وأخرجت منديلي وسبقته به إلى وجهي. فهي معركة لا تزال بجِلدي منها ندوب وآثار.
ما المحسِّن البديعي فيما تحته خط، وما سر جماله: «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى …»؟