3.
قال أحمد أمين في كتابه «حياتي»:
ما أنا إلا نتيجة حتميَّة لكلِّ ما مرَّ عليَّ وعلى آبائي من أحداث؛ فكلُّ ما يلقاه الإنسان من يوم ولادته وأثناء حياته يستقرُّ في قرارة نفسه، سواء في ذلك ما ذكر وما نسي، وما لَذَّ وما آلَمَ؛ فأحداث السرور والألم تتعاقب عليه، فتتراكم وتتجمَّع، ثم يكون هذا المزيج أساسًا لكلِّ ما يصدُر عن الإنسان من أعمال نبيلة وخسيسة، وكلُّ ذلك أيضًا هو السبب في أن يصير الرجل عظيمًا أو حقيرًا.
نظر مرَّةً إلى رأسي أستاذ جامعي في علم الجغرافيا وحدَّق فيه ثم قال: هل أنت مصري صميم؟ قلت: فيما أعتقد، ولِمَ هذا السؤال؟ قال: إن رأسك — كما يدلُّ عليه علم السُّلالات — رأس كُردي.
ولست أعلم من أين أتتني هذه الكردية؛ فأسرة أبي من البحيرة، أسرة فلاحة مصرية، ومع هذا فمديرية البحيرة على الخصوص مأوى المهاجرين من الأقطار الأخرى؛ فقد يكون جدي الأعلى — كما يقول الأستاذ — كرديًّا أو سوريًّا أو حجازيًّا أو غير ذلك، ولكن على العموم كان المهاجرون من آبائي ديمقراطيين من أفراد الشعب، لا يُؤبَه بهم ولا بتاريخهم، ولكن لعلَّ مما يؤيِّد كلام الأستاذ أني أشعر بأني غريب في أخلاقي وفي وَسَطي.
وهذه الأسرة كانت كسائر الفلاحين تعيش على الزرع، وحدَّثني أبي أنهم كانوا يملكون في بلدهم نحو اثني عشر فدَّانًا، ولكن توالى عليهم ظلم «السُّخْرَة» وظلم تحصيل الضرائب فهجروها، ونزل عمي وأبي في حيِّ المنشية (في قسم الخليفة)؛ حيث لا قريب ولا مأوى، وهو من أكثر أحياء القاهرة عددًا وأقلِّها مالًا وأسوئها حالًا، يسكنها العمال والصُّنَّاع والباعة الجوَّالون، وكثير من الطبقة الوسطى، وقليل من العليا، ولم تمسَّه المدنية الحديثة إلا مسًّا خفيفًا.
سكن الشريدان في بيت صغير في حارة متواضعة في حيِّ المنشية، وعاشَا على القليل مما ادَّخرا، ولا بدَّ أن يكونا قد لقيَا كثيرًا من البؤس والعَنَت في أيامهما الأولى، ولكن سرعان ما شقَّ الأخ الكبير طريقه في الحياة فكان صانعًا كسوبًا، وكان أكبر الظنِّ يأخذ أخاه الأصغر معه «وهو أبي» ليكون صانعًا بجانبه.
كيف استطاع الأخَوَان التكيُّف مع الأوضاع الاقتصادية في الحيِّ الجديد؟