1.
يقول «عبد الغفار مكاوي» في قصة «الزلزال»
كان مِنَ الضروري، بل مِنَ الحتمي، أنْ يكتُبَ غريب هذا الخِطابَ إلى صديقه العزيز شفيق الذي لم يَرَهُ منذ وقتٍ طويل. أكَّدَ غريب لصديقِهِ أنَّ الزلزالَ قادمٌ لا شكَّ عنده في ذلك، وشرح الأسبابَ والمُبرِّراتِ شرحًا مستفيضًا سنجده يُكرِّره في خطابه؛ لذلك ينبغي علينا أنْ نبدأَ بقراءة الخِطابِ نفسِهِ قبل أنْ نعرِفَ شيئًا عن مصيره:
«لا أملِكُ إلَّا أنْ أكتُبَ إليك يا شفيق بعد أنْ تعذَّر عليَّ لقاؤك والاتصالُ بك. أصبح هذا أمْرًا حتميًّا بعد أنَّ صوَّر لي الوهمُ أنَّك غاضبٌ عليَّ، أو في نفسك شَيءٌ مني منذ تلك اللَّيلةِ التي تحدَّثْنَا فيها عَنِ الزلزال. قلتُ: إنَّ الموتَ قادمٌ لا مَفَرَّ منه. صرختُ بأنَّ الزلزالَ قادمٌ، وأنَّني أُحِسُّ بعلاماته. ضحِكْتَ طويلًا واتهمْتَني بالرومانسية المريضة وعداوة البشر، وكأنَّ خيالي السَّقيمَ يتوهَّم أفظع ألوان الدمار.
كيف أُصدِّق أنَّ صديقي لا يفهمني؟ أنا أقصد الزلزالَ الآخَرَ؛ الزلزال الذي يرُجُّ العقول لا الأجسام، يهُزُّ الوعي النائم لا البُيوتَ الآيلة للسقوط، يُخرِج المُخلِصين والصادقين مِن تحتِ رمادِ الجحود والإهمال، حتى الكذَّابين والأدعياء وسائر المُعذَّبين في الأرض، وأخذتُ أتلو عليك الحُججَ والبراهين، كأيِّ مُحامٍ يرفع صَوتَهُ أمام قضاةٍ مصابين بالصمم والخرس والعمى: «عندما تتربَّع الذئاب على عروش الغابة، وتُصبِح الأُسودُ طعامًا للنمل والذباب والضِّباع والكلاب، فلا بُدَّ أنْ يحدُثَ الزلزالُ».
كان على صديقك يا شفيق أنْ يُراجِعَ كلَّ شَيءٍ فيه وحوله وأمامه ووراءه، أَنْ يجترَّ أشواكَ ذكرياته كالجمل العجوز، أنْ ينظُرَ في المرآة ويسألَ نفسه: كيف صِرْت إلى ما صِرْت إليه؟ أنْ يستعيدَ اللغة والهُوِيَّةَ، ويُحاكِمَ الماضِيَ والحاضِرَ، ويسألَ نفسه إنْ كان قد بَقِيَ له مُستقبَلٌ آخَرُ غَيرُ الإلقاءِ في مزبلة الإهمال. آلاف الصفحات التي كَتَبَها بدَمِ القلب صارتْ مِدادًا أخرسَ، أكوامَ كلامٍ لم ينفعْ أحدًا، ولم يُغيِّرْ شيئًا، ولم يُحرِّكْ حجرًا، ولم يُقدِّمْ خُطْوَةً ولم يُؤخِّرْ. لَيتَ الشجاعةَ تُواتِيه فيحرقها كما فعل الكثيرون قَبْلَه. أليس هذا الحريقُ المجنون هو الشَّطَّ الأخير للملَّاح الفاشل والرَّحَّالَةِ الخائب؟
وعانى صديقُكَ يا شفيق من قِلَّةِ النَّومِ، وثورات الأحشاء المُتَشَنِّجة، وانطفاءات الوعي والذاكرة والفَهْم والإدراك. صرخ. كلُّ شَيءٍ ينتفض ويرتجُّ في داخله بقُرْب أوانِ الزلزالِ، وكم اشتقتُ يا شفيق في تلك الأيَّامِ القَلِقَةِ والليالي الأَرِقَةِ إلى يَدِ حنانك، التي طالما رَبَّتَّ بها على كَتِفِي الذي انحنى ورأسي الذي كساه الثلج! كم تَطَلَّعْتُ إلى عَينَيْكَ الواسعتَيْنِ المُضِيئتَيْنِ، وإلى سلاسلِ ضحكَتِكَ الفِضِّيَّة، التي كان رنينُها أعذبَ وأحلى ما تسمعه أُذُنايَ وَسْطَ أمواجِ النَّشاز والخلط والتخليط والفوضى التي تَلْطِمُنا ليلَ نهارَ!
لتعلَمْ أخيرًا أنَّني اشتقتُ إليك وإلى وجهك وعَينَيْكَ وصَوتك وضحكتك وشفقتك، أيُّها الطفلُ الشفوق العجوز على صديقك المُغترِب الغريب».
هكذا ختَمَ غريب خطابَهُ الذي لا يَقِلُّ عنه غرابةً، والأغرب من ذلك أيضًا أنَّه فُوجِئَ بعد أيَّامٍ بأنَّ الخِطابَ المُسجَّلَ قد رجع به ساعي البريد، وعليه هذه التأشيرةُ بخطٍّ مُضطرِبٍ لا يفُكُّ أسرارَه إلَّا خبيرٌ في الخطوط: «وثَبَتَ بالبحث أنَّ صاحِبَ العُنوانِ تُوُفِّيَ منذ سنواتٍ، وانتقل أهلُهُ إلى عُنوانٍ آخَرَ».
ما العَلاقة التي تجمع بين قول الكاتب: «يرُجُّ العقول» وقوله: «يهُزُّ الوعي»؟