27.
ظاهرة الانتشار الثقافي
كنتُ أقرأ ذات مَرَّةٍ مجموعةَ قصصٍ قصيرة بالإنجليزية للكاتب الأمريكي «وليام سارويان»، فإذا بي أجِدُ قصةً بعُنوان «بنت الراعي»، وما إنْ مضَيْتُ في القراءة حتى تذكَّرتُها بحذافيرها؛ فقَدْ كانت إحدى حواديت جَدَّتي التي لا أوَّل لها ولا آخِر. تذكَّرتُ نبراتِ صوتها، والأخيلةَ التي مرَّتْ على خيالي، ووجدتُ أنَّ «سارويان» لم يُغيِّر شيئًا مِنَ القصة، إلَّا المقدمة التي كانت الجَدَّة فيها تُحضِر حفيدَها لسماعها؛ حتى يَعدِلَ عن شقاوته ومَيْلِه إلى تحطيم كلِّ شيء.
بالطبع رُحتُ أبحث كيف تصادَفَ أنَّ حدوتةً مِصريةً شعبيةً تنتقِلُ بتفاصيلها إلى الأدب الأمريكي المُعاصِر! كنتُ أعرِفُ أنَّ «وليام سارويان» من أصلٍ أرمني، ومِنَ المُحتمَل أنَّها من مخزونه الثقافي أثناء طفولتِهِ التي قضاها في المنطقة الأرمنية؛ إذنْ كانت هناك صلةٌ ثقافيةٌ تُتناقَلُ فيها القصصُ والأساطيرُ، ويتم التبادل ويتحقَّق الانتشار الثقافي وَفْقَ نظرية الانتشار التي يتحدَّث عنها علماء الثقافة.
بَعْدَ قليلٍ، وعندما فكَّرتُ في أنْ أُعِيدَ كتابةَ الحواديت الشعبية ونَشْرَها، عاد الموضوع إلى ذهني، ووجدتُ نفسي أقرأ في الأدب الشعبي للشعوب الأخرى، قرأتُ كتاب «الغصن الذهبي» لـ «فريزر»، وقرأتُ «أساطير إيسوب» المشهورة، ولعلَّ «إيسوب» هو الذي أثار دهشتي أكثر؛ لأنَّنِي ما إنْ مضَيْتُ في القراءة حتى لاحتْ لي ظِلالٌ كثيرةٌ لأصولٍ سمِعْتُها مِنْ قَبْلُ.
وبدأتُ أتبيَّنُ الصلاتِ الوثيقةَ بين الشعوب، وكان هناك منطقٌ معقولٌ يقول: إنَّ «إيسوب» رجُلٌ من أبناء اليونان، ومن حضارة البحر المُتوسِّط، ومِنَ المُمكِن أنْ يكونَ ما جمعه من أساطيرَ وقصصٍ من إنتاج شعوب المِنطقة هُنا، على أنَّنِي بَعْدَ ذلك، وبمحض الصدفة، وجدتُ كتابًا يضُمُّ مجموعةً مِنَ الحواديت الشعبية جمعها المُؤلِّف مِنَ الدُّوَل الإسكندنافية، وإذا بها نفس القصص التي سمِعْتُها من جَدَّتي مع تغييرٍ بسيط، فبدلًا من أنْ يكونَ البطل أميرًا كان تاجرًا، وبدلًا مِنَ السفر بالبحار كان السفر في الصحاري والأراضي البرية في الحواديت العربية، أمَّا الشخصية الشريرة فكانت عِندَ الشَّمال الأوروبي ساحرةً لها أنفٌ طويلٌ، وفي الرواية العربية كانت الشريرة هي زوجة الأبِ.
إذنْ، فانتشار الأدب الشعبي لا يعرف الحواجز الجغرافية واللُّغوية، وبشكلٍ ما تنتقِلُ القصص والأساطير من مكانٍ إلى آخَرَ مهما بَعُدَ، ومن لغة إلى أخرى مهما اختلفتْ، وإذا حدَثَ تغييرٌ ما فهو إضافاتٌ غَيرُ جوهريةِ الغرض، منها إعادةُ الصياغة بما يتفق مع الثقافة المنقول إليها، فما سبب تقسيم العالَمِ إلى شرق وغرب إذنْ؟ وإلى أيِّ أساس يستند الزَّعْمُ بأنَّ الحضاراتِ البشريةَ تختلف بصورة جوهرية، وتتناقض العقلياتُ فيها حتى تعجِزَ عَنِ التفاهُمِ؟
منذ هذه الفترةِ وأنا أتشكَّك في عمليات التمييز الثقافي والحضاري بين البشر، التمييز بين الاستعدادات والميول والطبائع، ولَعلِّي أعتقد أنَّ ادِّعاءاتِ التمايُز لم تنشأْ إلَّا عن جهل وتعصُّبٍ عِرْقي أو حضاري، وأنَّها لم تظهرْ إلَّا أخيرًا وفي المرحلة الاستعمارية؛ حيث كان الأقوياء في حاجة إلى تبرير استخفافهم بحقوق الآخَرينَ، فوجدوه في ادِّعاء التمايُز والاختلاف.
ما قيمة العطف بين «التمايُز» و«الاختلاف» في نهاية المقال؟