25.
يقول «نزار قباني»:
مدرستي الأولى هي «الكلية العلمية الوطنية» في دمشقَ، دخلتُ إليها في السابعة من عُمري، وخرجتُ في الثامنةَ عشْرةَ أحمِلُ شهادة البكالوريا الأولى.
موقع المدرسة كان موقعًا بمنتهى الأهمية؛ فلقَدْ كانت مزرعة في قلب مدينةِ دمشقَ القديمةِ، حيث كُنَّا نسكن، ومِن حَوْلِها ترتفع مآذِنُ الجامِعِ الأُمويِّ وقِبابُهُ، ويتألَّق قصر العَظم برخامه، ومرمره، وأحواض زَرعه، وبِركته الزرقاء، وأبوابه وسُقوفه الخشبية التي تركتْ أصابعُ النجارين الدمشقيين عليها ثروةً مِنَ النقوش والآيات القرآنية، لم يعرِفْ تاريخُ الخشبِ أروعَ منها.
وحَوْلَ مدرستِنا كانت تلتفُّ كالأساور الذهبية أسواقُ دمشقَ الظليلةُ؛ سوق الحميدية، وسوق مدحت باشا، وسوق الصاغة، وسوق الحرير، وسوق البزورية.
كانت المدرسة على بُعْدِ خُطُوات من بَيتِنا؛ أيْ إنَّها كانت امتدادًا طبيعيًّا للبَيتِ، وحجرةً أخرى من حُجُراته؛ وبالتالي فإنَّ طريقَنا إلى المدرسة كان طريقًا فولكلوريًّا مُغرَقًا في شامِيَّته.
كان المرور من سوق البزورية — وهو سوق البُهارات والتوابل — في الذَّهاب والإياب إلى المدرسة نَوعًا مِنَ الإسراء على غَيْمة مِنَ العطر، وكان المرور على معمل أبي المُلاصِق لسوق البزورية جزءًا من خط رجوعنا اليومي، ومناسبةً لتقبيلِ يَدِهِ، ومَلْءِ مَحافِظِنا المدرسية وجيوبنا بما لذَّ وطاب مِنَ الحلوى كأقراص المُشبَّك بالفستق؛ إذنْ فالطريق إلى المدرسة كان مثيرًا للأنف واللسان معًا.
ومع مَغرِبِ الشمسِ كُنَّا نعود إلى البَيتِ، حيث كانت أمي الملكة، وكُنَّا أغلى رعاياها.
«الكلية العلمية الوطنية» التي لَعِبَتْ دَوْرًا رئيسيًّا في تشكيلي الثقافي، كانت مؤسَّسةً وطنية خاصَّة يقصدها أولادُ البورجوازية الدمشقية الصغيرة، من تجار ومزارعين وأصحاب حِرف.
كانت «الكلية العلمية الوطنية» تحتلُّ مكانًا وسطًا بين المدارسِ التي كانت تتبنَّى خط الثقافة الفَرَنْسية تبنِّيًا كاملًا كمدرسة الفرير، وبين مدرسةِ التجهيز الرسمية التي كانت تتبنَّى الثقافة العربية تبنِّيًا كاملًا.
وقد لَعِبَتْ مشاعِرُ أبي القوميةُ والإسلاميةُ دَوْرَها في قراره الحكيم بإرسالنا إلى مدرسةٍ تجمع الثقافتين.
وهكذا دخَلْنا، معتز ورشيد وصباح وهيفاء وأنا، إلى «الكلية العلمية الوطنية»، وقضَيْنا على مقاعدها أجملَ أيَّامِ العُمر.
نشَأْنا في ظِلال الثقافة الفَرَنْسية، نتحاور في ساحة اللَّعِبِ بالفَرَنْسية تحت طائلةِ العقوبةِ، التي كانت عبارةً عن قطعة صغيرة مِنَ الخشب تُعطَى لمَن يتفوَّه بكلمة عربية واحدة، وكانت قطعةُ الخشبِ هذه تمُرُّ من يَدٍ إلى يَدٍ، ومَن تَبْقَى معه في آخِر النهارِ كان عليه أنْ يَبْقَى بَعْدَ انصرافِ الطلاب؛ ليحفظَ عن ظهر قلبٍ خمسين بيتًا مِنَ الشعر الفَرَنْسي.
وبرغم كراهيتي للظلم بشتَّى أنواعه، فإنَّنِي اعتبِرُ هذه العقوبةَ من أجمل العقوبات التي تعرَّضتُ لها في طفولتي.
في هذا المُناخِ نشَأْنا، نقرأ راسين وموليير وموسيه وهوغو وألكساندر دوماس في لغتهم الأصلية، ونتذوَّق الأدب الفَرَنْسي من مَنابعه.
ما الجملة التي لم تأتِ فيها كلمة «منتهى» بمعناها في جملة «موقع المدرسة كان موقعًا بمنتهى الأهمية»؟